فصل: من فوائد الشعراوي في الآيتين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من لطائف أبى حيان:

قال رحمه الله:
قال الراغب: وقد جاء {يا أهل الكتاب} دون قل، وجاء هنا قل.
فبدون قل هو استدعاء منه تعالى لهم إلى الحق، فجعل خطابهم منه استلانة للقوم ليكونوا أقرب إلى الانقياد.
ولما قصد الغض منهم ذكر قل تنبيهًا على أنهم غير متساهلين أنْ يخاطبهم بنفسه، وإنْ كان كلا الخطابين وصل على لسان النبي صلى الله عليه وسلم.
وأطلق أهل الكتاب على المدح تارة، وعلى الذّم أخرى.
وأهل القرآن والسنة لا ينطلق إلا على المدح، لأن الكتاب قد يراد به ما افتعلوه دون ما أنزل الله نحو: {يكتبون الكتاب بأيديهم} وقد يراد به ما أنزل الله.
وأيضا فقد يصحُّ أنْ يُقال على سبيل الذمّ والتهكم، كما لو قيل: يا أهل الكتاب لمن لا يعمل بمقتضاه، انتهى ما لخص من كلامه. اهـ.

.من فوائد القاسمي:

قال رحمه الله:
{قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله} أي: عن دينه. وكانوا يحتالون لصدهم عن الإسلام: {مَنْ آمَنَ} مفعول تصدون قدم عليه الجار والمجرور للاهتمام به: {تَبْغُونَهَا} على الحذف والإيصال، أي: تبغون لها، أي: لسبيل الله التي هي أقوم السبل: {عِوَجًا} أي: اعوجاجًا وزيغًا وتحريفًا. قال ابن الأنباري: البغي يقتصر له على مفعول واحد إذا لم يكن معه اللام، كقولك: بغيت المال والأجر والثواب، وأريد هاهنا: تبغون لها عوجًا، ثم أسقطت اللام. كما قالوا: وهبتك درهمًا، أي: وهبت لك درهمًا ومثله: صدتك ظبيًا، أي: صدت لك ظبيًا، وأنشد:
فتولى غلامهم ثم نادى ** أظليمًا أصيدكم أم حمارا

أراد: أصيد لكم.
قال الرازي: وفي الآية وجه آخر، وهو أن يكون عوجًا في موضع الحال. والمعنى: تبغونها ضالين، وذلك أنهم كانوا يدعون أنهم على دين الله وسبيله، فقال تعالى: إنكم تبغون سبيل الله ضالين، وعلى هذا القول لا يحتاج إلى الحذف والإيصال.
وذكر ناصر الدين في الانتصاف وجها آخر قال: هو أتم معنى، وهو أن تجعل الهاء هي المفعول به، وعوجًا حال وقع فيها المصدر الذي هو عوجًا موقع الاسم، وفي هذا الإعراب من المبالغة أنهم يطلبون أن تكون الطريقة المستقيمة نفس العوج، على طريقة المبالغة في مثل رجل صوم، ويكون ذلك أبلغ في ذمهم وتوبيخهم- والله أعلم-.
{وَأَنتُمْ شُهَدَاء} بأنها سبيل الله والصد عنها ضلال وإضلال: {وَمَا الله بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} تهديد ووعيد. اهـ.

.من فوائد صاحب المنار:

{قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَاللهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ}.
أَقُولُ لَمَّا أَقَامَ سبحانه الْحُجَّةَ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ، وَبَيَّنَ بُطْلَانَ شُبُهَاتِهِمْ عَلَى نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَكَوْنِهِ عَلَى مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- أَمَرَ أَنْ يُبَكِّتَهُمْ عَلَى كُفْرِهِمْ وَصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ الإيمان، وَابْتِغَائِهِ عِوَجًا، وَضَلَالِهِمْ بِذَلِكَ عَلَى عِلْمٍ. فَقَالَ: قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ فِي بَيْتِهِ الدَّالَّةِ عَلَى كَوْنِهِ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِعِبَادَتِهِ وَعَلَى بِنَاءِ إِبْرَاهِيمَ لَهُ وَتَعَبُّدِهِ فِيهِ قَبْلَ وُجُودِ بَنِي إسرائيل وَبَيْتِ الْمَقْدِسِ، أَوْ بِآيَاتِهِ عَلَى صِحَّةِ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ وَإِحْيَائِهِ لِمِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ الَّذِي تَعْتَرِفُونَ بِنُبُوَّتِهِ وَفَضْلِهِ- وَمِنْهَا مَا ذَكَرَ عَنِ الْبَيْتِ- وَاللهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ أَيْ وَالْحَالُ أَنَّ اللهَ تعالى مُطَّلِعٌ عَلَى عَمَلِكُمْ هَذَا وَسَائِرَ أَعْمَالِكُمْ مُحِيطٌ بِهِ، أَفَلَا تَخَافُونَ أَنْ يَأْخُذَكُمْ بِهِ وَيُجَازِيَكُمْ عَلَيْهِ أَشَدَّ الْجَزَاءِ؟
قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ مَنْ آمَنَ أَيْ لِأَيِّ شَيْءٍ تَصْرِفُونَ مَنْ آمَنَ بِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَاتَّبَعَهُ عَنِ الإيمان بِهِ، وَهُوَ سَبِيلُ اللهِ الْمُوَصِّلَةُ إِلَى رِضْوَانِهِ وَرَحْمَتِهِ بِمَا تُرَقِّي مِنْ عَقْلِ الْمُؤْمِنِ بِالْعَقَائِدِ الصَّحِيحَةِ وَمِنْ نَفْسِهِ بِالْأَخْلَاقِ الْكَرِيمَةِ وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، تَصُدُّونَ عَنْهَا بِالتَّكْذِيبِ كِبْرًا وَحَسَدًا، وَإِلْقَاءِ الشُّبَهَاتِ الْبَاطِلَةِ مُكَابَرَةً وَبَغْيًا وَالْكَيْدِ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَالْمُؤْمِنِينَ بَغْيًا وَعُدْوَانًا تَبْغُونَهَا عِوَجًا أَيْ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْهَا قَاصِدِينَ بِصَدِّكُمْ أَنْ تَكُونَ مُعْوَجَّةً فِي نَظَرِ مَنْ يُؤْمِنُ لَكُمْ وَيَغْتَرُّ بِكَيْدِكُمْ وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ بأنها سَبِيلُ اللهِ الْمُسْتَقِيمَةُ، لَا تَرَوْنَ فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتَا، عَارِفُونَ بِمَا وَرَدَ فِيهَا مِنَ الْبِشَارَاتِ عَنِ الْأَنْبِيَاءِ وَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ مَنْ صَدَّ عَنْهَا ضَالٌّ مُضِلٌّ. وَقِيلَ: الشُّهَدَاءُ فِي قَوْمِكَ، تُوصَفُونَ فِيهِمْ بِالْعَدْلِ، وَتَسْتَشْهِدُونَ فِي الْقَضَايَا، وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ كَانَ أَقْدَرَ عَلَى الصَّدِّ، وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: الْمَعْنَى وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ عَلَى بَقَايَا الْكِتَابِ وَمَا يُؤْثَرُ عَنِ النَّبِيِّينَ، فَكَانَ مِنْ حَقِّكُمْ أَنْ تَكُونُوا أَقْرَبَ النَّاسِ إِلَى مَعْرِفَةِ هَذِهِ السَّبِيلِ: سَبِيلِ الْحَقِّ وَالسَّبْقِ إِلَيْهَا بالإيمان بِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم. وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ مِنْ هَذَا الصَّدِّ وَغَيْرِهِ فَهُوَ يُجَازِيكُمْ عَلَيْهِ. فَالتَّذْيِيلُ تَهْدِيدٌ لَهُمْ وَوَعِيدٌ، وَقَدْ جَاءَ بِنَفْيِ الْغَفْلَةِ؛ لِأَنَّ صَدَّهُمْ عَنِ الإسلام كَانَ بِضُرُوبٍ مِنَ الْمَكَايِدِ وَالْحِيَالِ الْخَفِيَّةِ الَّتِي لَا تَرُوجُ إلا على الْغَافِلِ. كَمَا خَتَمَ الْآيَةَ السَّابِقَةَ بِكَوْنِهِ شَهِيدًا عَلَى عَمَلِهِمْ؛ لِأَنَّ الْعَمَلَ الَّذِي ذَكَرَ فِيهَا هُوَ ظَاهِرٌ مَشْهُودٌ، فَذَكَرَ فِي كُلِّ آيَةٍ مَا يُنَاسِبُ الْمَقَامَ.
أَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَتِ الْأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ بَيْنَهُمَا شَرٌّ، فَبَيْنَا هُمْ جُلُوسٌ ذَكَرُوا مَا (كَانَ) بَيْنَهُمْ حَتَّى غَضِبُوا وَقَامَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ بِالسِّلَاحِ فَنَزَلَتْ {وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ...} الْآيَةُ وَالْآيَتَانِ بَعْدَهَا.
وَأَخْرَجَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ قَالَ: مَرَّ شَاسُ بْنُ قَيْسٍ- وَكَانَ يَهُودِيًّا- عَلَى نَفَرٍ مِنَ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ يَتَحَدَّثُونَ، فَغَاظَهُ مَا رأى مِنْ تَآلُفِهِمْ بَعْدَ الْعُدْاوَنِ، فَأَمَرَ شَابًّا مَعَهُ مِنْ يَهُودَ أَنْ يَجْلِسَ بَيْنَهُمْ فَيُذَكِّرَهُمْ يَوْمَ بُعَاثٍ، فَفَعَلَ، فَتَنَازَعُوا وَتُفَاخَرُوا حَتَّى وَثَبَ رَجُلَانِ: أَوْسُ بْنُ قُرَظِيٍّ مِنَ الْأَوْسِ، وَجَبَّارُ بْنُ صَخْرٍ مِنَ الْخَزْرَجِ فَتَقَاوَلَا، وَغَضِبَ الْفَرِيقَانِ، وَتَوَاثَبُوا لِلْقِتَالِ فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَجَاءَ حَتَّى وَعَظَهُمْ وَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ، فَسَمِعُوا وَأَطَاعُوا فَأَنْزَلَ اللهُ فِي أَوْسٍ وَجَبَّارٍ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ الْآيَةَ. وَفِي شَاسِ بْنِ قَيْسٍ: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ الْآيَةَ. انْتَهَى مَنْ لُبَابِ النُّقُولِ لِلسَّيُوطِيِّ.
وَأَخْرَجَهُ ابْنُ جَرِيرٍ فِي التَّفْسِيرِ مُفَصَّلًا عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، قَالَ: مَرَّ شَاسُ بْنُ قَيْسٍ- وَكَانَ شَيْخًا قَدْ عَسَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، عَظِيمَ الْكُفْرِ شَدِيدَ الضَّغَنِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، شَدِيدَ الْحَسَدِ لَهُمْ- عَلَى نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ فِي مَجْلِسٍ قَدْ جَمَعَهُمْ يَتَحَدَّثُونَ فِيهِ، فَغَاظَهُ مَا رأى مِنْ جَمَاعَتِهِمْ وَأُلْفَتِهِمْ وَصَلَاحِ ذَاتِ بَيْنِهِمْ عَلَى الإسلام بَعْدَ الَّذِي كَانَ مِنْهُمْ مِنَ الْعَدَاوَةِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَقَالَ: قَدِ اجْتَمَعَ مَلَأُ بَنِي قَيْلَةَ بِهَذِهِ الْبِلَادِ، وَاللهِ مَا لَنَا مَعَهُمْ إِذَا اجْتَمَعَ مَلَؤُهُمْ بِهَا مِنْ قَرَارٍ، فَأَمَرَ فَتًى شَابًّا مِنَ الْيَهُودِ- وَكَانَ مَعَهُ- فَقَالَ: اعْمَدْ إِلَيْهِمْ فَاجْلِسْ مَعَهُمْ وَذَكِّرْهُمْ يَوْمَ بُعَاثٍ وَمَا كَانَ قَبْلَهُ. وَأَنْشِدْهُمْ بَعْضَ مَا كَانُوا تَقَاوَلُوا فِيهِ مِنَ الْأَشْعَارِ، وَكَانَ يَوْمُ بُعَاثٍ يَوْمًا اقْتَتَلَتْ فِيهِ الْأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ، وَكَانَ الظَّفَرُ لِلْأَوْسِ عَلَى الْخَزْرَجِ، فَفَعَلَ، فَتَكَلَّمَ الْقَوْمُ عِنْدَ ذَلِكَ، فَتَنَازَعُوا وَتَفَاخَرُوا، حَتَّى تَوَاثَبَ رَجُلَانِ مِنَ الْحَيَّيْنِ عَلَى الرَّكْبِ- أَوْسُ بْنُ قُرَظِيٍّ أَحَدُ بَنِي حَارِثَةَ بْنِ الْحَارِثِ مِنَ الْأَوْسِ وَجَبَّارُ بْنُ صَخْرٍ أَحَدُ بَنِي سَلِمَةَ مِنَ الْخَزْرَجِ- فَتَقَاوَلَا ثُمَّ قَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: إِنْ شِئْتُمْ وَاللهِ رَدَدْنَاهَا الْآنَ جَذَعَةً، وَغَضِبَ الْفَرِيقَانِ وَقَالُوا: قَدْ فَعَلْنَا، السِّلَاحَ السِّلَاحَ، مَوْعِدُكُمُ الظَّاهِرَةَ، وَالظَّاهِرَةُ: الْحَرَّةُ، فَخَرَجُوا إِلَيْهَا وَتَحَاوَرَ النَّاسُ، فَانْضَمَّتِ الْأَوْسُ بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ وَالْخَزْرَجُ بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ عَلَى دَعْوَاهُمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ فِيمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ مِنْ أَصْحَابِهِ حَتَّى جَاءَهُمْ، فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ اللهَ اللهَ، أَتَدْعُونَ بِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ وَأَنَا بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ بَعْدَ إِذْ هَدَاكُمُ اللهُ إِلَى الإسلام وَأَكْرَمَكُمْ بِهِ، وَقَطَعَ بِهِ عَنْكُمْ أَمْرَ الْجَاهِلِيَّةِ، وَاسْتَنْقَذَكُمْ بِهِ مِنَ الْكُفْرِ، وَأَلَّفَ بِهِ بَيْنَكُمْ، تَرْجِعُونَ إِلَى مَا كُنْتُمْ عَلَيْهِ كُفَّارًا!؟ فَعَرَفَ الْقَوْمُ أَنَّهَا نَزْغَةٌ مِنَ الشَّيْطَانِ وَكَيْدٌ مِنْ عَدُّوِهِمْ، فَأَلْقَوُا السِّلَاحَ مِنْ أَيْدِيهِمْ، وَبَكَوْا وَعَانَقَ الرِّجَالُ مِنَ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، ثُمَّ انْصَرَفُوا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم سَامِعِينَ مُطِيعِينَ، قَدْ أَطْفَأَ اللهُ عَنْهُمْ كَيْدَ عَدُوِّ اللهِ شَاسِ بْنِ قَيْسٍ وَمَا صَنَعَ. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: فَأَنْزَلَ اللهُ فِي شَاسِ بْنِ قَيْسٍ وَمَا صَنَعَ: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ إِلَى آخِرِ الْآيَتَيْنِ السَّابِقَتَيْنِ، قَالَ: وَأَنْزَلَ اللهُ- عَزَّ وَجَلَّ- فِي أَوْسِ بْنِ قُرَظِيٍّ وَجَبَّارِ بْنِ صَخْرٍ وَمَنْ كَانَ مَعَهُمَا مِنْ قَوْمِهِمَا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَى قوله: {لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} وَأَوْرَدَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ الرِّوَايَةَ مُخْتَصَرَةً، وَقَالَ فِي آخِرِهَا: فَمَا كَانَ يَوْمٌ أَقْبَحَ أَوَّلًا وَأَحْسَنَ آخِرًا مِنْ ذَلِكَ الْيَوْمِ، فَعَلَى هَذَا تَكُونُ الْآيَتَانِ السَّابِقَتَانِ مُتَّصِلَتَيْنِ بِالْآيَاتِ الْآتِيَةِ. اهـ.

.من فوائد الشعراوي في الآيتين:

قال رحمه الله:
{قُلْ يا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ الله وَالله شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ}.
وحين تسمع {قل} فهي أمر من الله لرسوله كما قلنا من قبل؛ أنك إذا كلفت إنسانا أن يقول جملة لمن ترسله إليه فهل هذا الإنسان يأتي بالأمر {قل} أو يؤدي الجملة؟ أنه يؤدي الجملة، ومثال ذلك حين تقول لابنك مثلا: قل لعمك: إن أبي سيأتيك غدا فابنك يذهب إلى عمه قائلا: أبي يأتيك غدا.
وقد يقول قائل: ألم يكن يكفي أن يقول الله للرسول: قل يا محمد فيبلغنا رسول الله يا أهل الكتاب لم تكفرون؟ كان ذلك يكفي، ولكن الرسول مبلغ الأمر نفسه من الله، فكأنه قال ما تلقاه من الله، والذي تلقاه الرسول من الله هو: {قُلْ يا أَهْلَ الْكِتَابِ} وهذا يدل على أن الرسول يبلغ حرفيا ما سمعه عن الله وهناك آيات كثيرة في القرآن تبدأ بقول الحق: {يا أَهْلَ الْكِتَابِ} ولا يأتي فيها قول الحق: {قل}. وهناك آيات تأتي مسبوقة بـ {قل} ما الفرق بين الاثنين؟
نحن نجد أن الحق مرة يتلطف مع خلقه، فيجعلهم أهلا لخطابه، فيقول: {يا أَهْلَ الْكِتَاب} أنه خطاب من الله لهم مباشرة. ومرة يقول لرسوله: قل لهم يا محمد لأنهم لم يتساموا إلى مرتبة أن يُخاطبوا من الله مباشرة: فإذا ما وجدنا خطابا من الحق للخلق، مرة مسبوقا بـ {قل} ومرة أخرى غير مسبوق فلْتعلم أن الحق سبحانه حين يخاطب خلقه الذين خلقهم يتلطف معهم مرة، ويجعلهم أهلا لأن يخاطبهم، ومرة حين يجد منهم اللجاج فإنه يبلغ رسول صلى الله عليه وسلم: قل لهم.
والمثال على ذلك- ولله المثل الأعلى- في حياتنا، نجد الواحد منا يقول لمن بجانبه: قل لصاحب الصوت العالي أن يصمت. إن هذا القائل قد تعالى عن أن يخاطب هذا الإنسان صاحب الصوت المرتفع فيطلب ممن يجلس بجانبه أن يأمر صاحب الصوت العالي بالسكوت. وحين يجيء الخطاب لأهل الكتاب فنحن نعرف أنهم اليهود أصحاب التوراة، والنصارى أصحاب الإنجيل، وهؤلاء هم من يقول عنهم الحق: {يا أَهْلَ الْكِتَاب}.
ولم يقل أحد لنا: يا أهل القرآن لماذا؟
لأن الحق حين يقول لهم: {يا أَهْلَ الْكِتَاب} فنحن نعرف أن الكتاب يُطلق على كل مكتوب، وكفرهم يعارض ما علم الله أنه موجود في الكتاب الذي أنزل عليهم؛ لأنه هو الذي أنزل الكتاب، ويعلم أن ما في الكتاب يدعو إلى الإيمان، ولا يدعو إلى الكفر. وما دام هو الحق الذي نَزَّل الكتاب، وهو الشاهد، فيصبح من الحمق من أهل الكتاب أن يوقعوا أنفسهم في فخ الكفر؛ لأنهم بذلك يكذبون على الله: والله سبحانه يسجل عليهم أنهم خالفوا ما هو مكتوب ومنزل عليهم في كتابهم.
إنهم- أهل الكتاب- إن استطاعوا تعمية أهل الأرض فلن يستطيعوا ذلك بالنسبة لخالق الأرض والسماء.
والحق حين يقول: {لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ الله} فهل نفهم من ذلك أن كفرهم بآيات الله هو سترهم آيات الله سترا أوليا أو أنهم آمنوا بها، ثم كفروا بها؟ لنرى ماذا حدث منهم، لقد كانت البشارات به صلى الله عليه وسلم مكتوبة في التوراة، ومكتوبة في الإنجيل وهم قد آمنوا بها قبل أن يجيء سيدنا رسول الله، فلما جاء رسول الله بالفعل كفروا بها. وفي هذا جاء القول الحكيم: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ الله مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ الله عَلَى الْكَافِرِينَ} [البقرة: 89].
لماذا كفروا به صلى الله عليه وسلم؟ لأنه زحزح عنهم السلطة الزمنية، فلم تعد لهم السلطة الزمنية التي كانوا يبيعون فيها الجنة ويبيعون فيها رضوان الله ويعملون ما يحقق لهم مصالحهم دون التفات لأحكام الله. وسبق أن قلت: إن قريشا قد امتنعت عن قول: لا إله إلا الله وهذا الامتناع دليل على أنها فهمت المراد من لا إله إلا الله، فلو كانت مجرد كلمة تقال لقالوها، لكنهم عرفوا وفهموا أنه لا معبود ولا مطاع ولا مشرع، ولا مكلف إلا الله.
إن الحق يقول لأهل الكتاب: {قُلْ يا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا الله بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ}.
هب أنكم خبتم في ذواتكم، وحملتم وزر ضلالكم؛ فلماذا تحملون وزر إضلالكم للناس؟. كان يكفي أن تحملوا وزر ضلالكم أنتم، لا أن تحملوا أيضا وزر إضلالكم للناس؟
إن الحق سبحانه قال: {لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلاَ سَاءَ مَا يَزِرُونَ} [النحل: 25].
إنه سبحانه قال ذلك مع أنه قد قال: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [فاطر: 18].
إن الذي لا يحمل وزرا مع وزره هو الضال الذي لم يُضِل غيره، فهذا يتحمل إثمه فقط. أما الذي يحمل وزر نفسه، ووزر غيره فهو الضال المضل لغيره، وهنا يسألهم الحق سبحانه وتعالى على لسان رسوله: {لِمَ تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله مَنْ آمَنَ}.
كأنه يقول لهم ماذا تريدون من الدين الذي يربط العبد بربه؟. إنكم لا تريدونه دينا قيما، إنكم تريدون دينا معوجا، والمعوج عن الاستقامة إنما يكون معوجا لِغرض؛ لأن المعوج يطيل المسافة. إنّ الذي يسير في طريق مستقيم ما الذي يدعوه إلى أن ينحرف عن الطريق المستقيم ليطيل على نفسه السبيل؟. إن كان يريد الغاية مباشرة فإنه يفضل الطريق المستقيم. أما الذي ينحرف عن الطريق المستقيم فهو لا ينبغي الغاية المنشودة، بل يطيل على نفسه المسافة، وقد لا يصل إلى الغاية.